سورة الأنعام - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والارض} جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد إخبارًا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق إخباره اسم قطعًا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال: بعت بائع.
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا ليقيل لقائل: ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء لحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلًا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام ضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وقيل: إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستيعاد والتعجب. ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولًا: باسم الذات ووصفه تعالى ثانيًا: بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الإنعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة. ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم: إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي.
وقد صرح الإمام في «شرح الإشارة» عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات. فالأولى: في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية: وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقًا للعبادة. والثالثة: وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه كما قال الشهاب لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلًا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات.
ولذا قال أهل الظاهر:
صفاته لم تزد معرفة *** لكنها لذة ذكرناها
فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقًا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل. وسمي ذاتيًا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندًا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندًا إلى الذات. وذكر بعض محققي المتأخرين كلامًا في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام.
وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل {له الحمد} [سبأ: 1] إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضًا لما بقي فرق بين الحمد لله وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وأن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودًا عليه غالبًا وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورًا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عز وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعمًا على عباده وجب كون الحمد حقًا لله تعالى واجبًا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضًا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقًا بالحمد مجردًا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو نزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة {الحمد للَّهِ} فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب، نعم في ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقًا لله تعالى واجبًا على عباده مختصًا به عز شأنه مقصورًا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر نطوقه بعلية الوصف للحكم وفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف.
ثم قال: وبالجملة إن جملة {الحمد الله} مدعى ومدلول.
وقوله سبحانه وتعالى: {الذى خَلَقَ} إلخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولًا على ما قيل وبالوصف ثانيًا حتى يكون ثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودًا عليه وعلة لاستحقاق الحمد، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللًا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها، وأيضًا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل. وأما ما يقال: إنما قيل {الحمد للَّهِ} بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودًا عليه.
وقد يقال: إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوبين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم. وما يدل عليه إجمالًا أقيم مقامه فكأنهم قالوا: الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل: الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السموات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودًا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودًا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى.
فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت: فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات على ما قيل: هل له وجه أم لا؟ قلت: أما كون الذات الصرف محمودًا عليه، وكذا كون الذات محمودًا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له.
وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفًا جميلًا صالحًا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودًا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودًا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحًا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد.
وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة {الحمد للَّهِ} هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السموات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين {الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض} [سبأ: 1] وبين {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} [سبأ: 1] مما محصله أن جملة {لَهُ الحمد} جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الإنعام بنعم الآخرة مختصًا به تعالى بخلاف جملة {الحمد للَّهِ الذى لَهُ} إلخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصد لعدم كون الإنعام مختصًا به تعالى مطلقًا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة {الحمد للَّهِ الذى لَهُ} إلخ بخلاف جملة {لَهُ الحمد}، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة {الحمد للَّهِ} إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضًا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الآخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك.
وجمع سبحانه السموات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضًا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم. ولذا عيب على أبي نواس قوله:
ومالك فاعلمن فينا مقالا *** إذا استكملت آجالًا ورزقًا
حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل، وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلًا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتلبيغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس لأنها ليس بدار قرار، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعًا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا، ولهذا الشرف أيضًا قدمت على الأرض في الذكر، وقيل: إن جمع السموات وإفراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل صالح هذا العالم، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول.
وحاصله إن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض.
واعترض بأنه على ما فيه را يقتضي العكس، وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقيًا في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين» فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام».
والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته، والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «بينهما خمسمائة عام إن القوس من إحدى السموات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام» ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرًا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.
وقوله تعالى: {الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات *وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أوام كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضًا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر. ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السموات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم. وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام. وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد. والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السموات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين.
{وَجَعَلَ الظلمات والنور} عطف على {خُلِقَ السموات} داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبًا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل، والجعل كما قال شيخ الإسلام الإنشاء والإبداع كالخلق خلا إن ذلك مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضًا كما في قوله سبحانه: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] وأيًا ما كان ففيه إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوًا كان أو مستقرًا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدًا فيه، وقيل: «الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين» أي كونه محصلًا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهًا على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.
واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذٍ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل جرد هذا، وأيضًا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضًا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا} [النحل: 80] {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان: 53] إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر.
وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه: {خُلِقَ السموات والارض} أو لما قدمناه في البقرة. وقيل: لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم عنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضًا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاءً ظاهرًا حيث قرنا بالسموات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده.
وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالًا لقائل. وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء وهو باطل، أما أولًا: فلأن كونها أنوارًا إما أن يكون هو عين كونها أجسامًا وإما أن يكون مغايرًا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم، وأما إن قيل: إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء فهو أيضًا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسًا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعًا ازدادت سترًا لكن الأمر بالعكس، وأما ثانيًا: فلأن الشعاع لو كان جسمًا لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة، وأما ثالثًا: فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أو لا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل: إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل: إنها عدمت فهو أيضًا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسمًا لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها.
وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضىء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعًا: فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم بيان الصغرى بثلاثة أوجه، الأول: أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة. والثاني: أنه يتحرك وينتقل بحركة المضىء. والثالث: أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة والجواب: أن قولهم: الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل. وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر، وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضىء في ذلك الجسم.
ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعًا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول: أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية، والأول: باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرًا إلا أن تجدده. والثاني: يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيًا. وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني: أن البياض قد يكون مضيئًا ومشرقًا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعًا فلو كان كون كل منهما مضيئًا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادًا للبعض وهو محال إذ الضوء لا يقابله إلا الظلمة.
الثالث: أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلًا قد لا يكون مضيئًا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذٍ يرى ضوؤه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلابد من التغاير. الرابع: أن المضىء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويًا فيهما جميعًا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقًا ساذجًا، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوؤه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة، وفرق الإمام بين النور والضوء والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال: إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشىء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءًا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورًا، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعًا. والذي يكون للشيء من غيره كما للمرآة يسمى بريقًا. وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضًا، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات.
وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فهما العدم والملكة المشهوران، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيئة لقبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في «حكمة العين وشرحها»، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى ميرزاجان: لابد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلًا للوجودي، ولا يكفي نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلًا له، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب.
قال في «الشفاء»: العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة، وهذا مما لابد منه في معناه المشهور انتهى، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود: إن عدم الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات. ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن. وعليه الظلمة في الخبر عنى العدم والنور عنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل، وتحقيقه على ما قيل أن الجعل هنا ليس عنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئًا وتصييره قائمًا به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودًا عينيًا، وفي «الطوالع» أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
{ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} يحتمل أن يكون {يَعْدِلُونَ} فيه من العدل عنى العدول أو منه عنى التسوية، والكفر يحتمل أن يكون عنى الشرك المقابل للإيمان أو عنى كفران النعمة، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه، ثم هي إما معطوفة على جملة {الحمد للَّهِ} إنشاءً أو إخبارًا أو على قوله سبحانه: {خُلِقَ} صلة {الذى} أو على {الظلمات} مفعول {جَعَلَ} فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل عنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر عنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل عنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين.
والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته. و{ثُمَّ} لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل عنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه عنى العدول، فالظاهر أنها حينئذٍ متعلقة بما قبلها، وما قاله المحقق التفتازاني من أنه لا مخصص لكل من توجيهي {بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذٍ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه، وذلك لأنه إذا قيل مثلًا في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة، ولا يناسب أن يقال: إنهم يسوون به غيره إذ لم يسبق صريحًا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية، وإذا قيل مثلًا في الصورة الثانية: إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال: ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه.
وقال بعض المحققين: إذا كان المعنى على الأول: الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسان العدول عنه، وعلى الثاني: المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواهه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته، فوجه التخصيص في الأول: أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولى نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره، وفي الثاني: أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر.
واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ماله ذلك ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودًا عليه. وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم ثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه، وفي ذلك تعظيم منبىء عن كمال الاستحقاق، وقد يقال: وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلًا اختياريًا، وما ذكر ليس كذلك فعليه لابد من التأويل.
وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم عزل عنه، وادعاء أن له دخلًا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل: الحمد لله الذي أنعم ثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان نهاية إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء المذكور، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بروادفها؛ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى. ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته، وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال.
واعترض أيضًا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم: أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح.
وأجيب بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرًا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النحاة: إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم.
واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه لتحققه مع إغفاله أيضًا فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودًا بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي؛ وأجيب بأنه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيهًا للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك، والذي تصدح به كلماتهم أن صلة {يَعْدِلُونَ} على تقدير أن يكون من العدل عنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل، وإنما قدروا له مفعولًا على تقدير أن يكون من العدل عنى التسوية فقالوا: غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم {بِرَبّهِمْ} على احتمال تعلقه بما بعد لذلك، ويجوز أن يكون للاهتمام.
وقال بعض المحققين: إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب. هذا وأخرج ابن الضريس في «فضائل القرآن». وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن كعب قال: فتحت التوراة بـ {الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والارض *وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} وختمت بـ {الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].


{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عامًا لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات. والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحًا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.
وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداءً من طين لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته» وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم، وأيًا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة.
{ثُمَّ قَضَى} أي قدر وكتب {أَجَلًا} أي حدًا معينًا من الزمان للموت. و{ثُمَّ} للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق، وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» {مُّسَمًّى} أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل و{عِندَهُ} هو الخبر، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم على خبره الظرف مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم، فإن ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالًا ولا تفصيلًا. وهذا بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالًا بناءًا على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان.
وقيل: وجه الإخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والأول: أيضًا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كان.
وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني: ما بين الموت والبعث. وروي ذلك عن الحسن وابن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال: قضى أجلًا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فإذا كان الرجل صالحًا واصلًا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد في أجل الممات، وذلك قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} [فاطر: 11] وعليه فمعنى عدم تغير الأجل عدم تغير آخره، وقيل: الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد وابن جبير واختاره الجبائي.
ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية، وعن أبي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى والثاني أجل من بقي ومن يأتي، وقيل: الأول النوم والثاني الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأيده الطبرسي بقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الاخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42] ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد تسميته أجلًا وإن سمي موتًا، وقيل: إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر في خبر «إن صلة الرحم تزيد في العمر» ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا: إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة، وقيل: المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا: ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب، وقيل: الأجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف و{عِندَهُ} خبر بعد خبر أو متعلق سمى وهو أبعد الوجوه.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} أي تشكون في البعث كما أخرجه أبن أبي حاتم عن خالد بن معدان، وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين وطلب الإمارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر.
ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. قيل: الامتراء الجحد، وقيل: الجدال. وأيًا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارًا على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة. ومن هذا يعلم أن شطرًا من تلك الأوجه السابقة آنفًا لا يلائم مساق النظم الكريم، وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وإنكاره كما ينبىء عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار.
وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عز وجل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه أنه لا معبود، ولا إله سواه بالطريق الأولى، وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا لاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع، ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك باللازم. ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضًا دليلًا على البعث على منوال قوله تعالى: {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بناها رَفَعَ} [النازعات: 72] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.


{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}
وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الله} جملة من مبتدأ عائد إليه سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفه على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام إلهيته لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف ما تقدم، والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما يأتي وإلا فهو على حد:
أنا أبو النجم وشعري شعري ***
وقوله تعالى: {فِي السموات وَفِى الارض} متعلق على ما قيل بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك: هو حاتم في طيىء على معنى الجواد. والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم الكريم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من صفات الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الإسناد فيه من التوحيد والتفرد بالألوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه تعالى خاصة فكأنه قيل: وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسا يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد بالألوهية فيهما أو وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم، ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على نحو المالك والمتصرف أو المتوحد أو يقدر القول، وعلى كل تقدير يندفع ما يقال: إن الظرف لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حيئنذ يكون ظرفًا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان. ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسموات والأرض وا فيهما بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور ذلك عنده. وجوز أن يكون مجازًا مرسلًا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر، وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه عز اسمه ن تمكن في مكان وأثبت له من لوازمه وهو علمه به وا فيه، وليس هذا من التشبيه المحظور في شيء.
وعليه يكون قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها ومن الأفعال بيانًا للمراد وتوكيدًا لمن يفهم من الكلام. وتعليق علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السموات وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا يعتبر بيانًا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فإن ملاحظته من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسا تقدم مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط حتمًا.
وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله بيانًا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من المعبودية واختصاص إطلاق الاسم عليه تعالى، وكذا مفهوم المتوحد بالألوهية فكيف يكون هذا بيانًا لذلك. واعتبار العلم فيما صدق عليه المتوحد غير كاف في البيانية، وقيل في بيانها على تقدير اعتبار المتوحد بالألوهية: إن حصر الألوهية عنى تدبير الخلق، ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عز اسمه من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم.
ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على احتمال تعلق الجار السابق باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحيد بها أمر لا تعلق له كان فلا معنى لجعله متعلقًا كان فضلًا عن جميع الأمكنة فإن تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز، وكذا بما فيه. وتعقب ذلك نع تفسير الألوهية بما ذكر؛ ولعل الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث، وقد جوز غير واحد الإخبار بالجملة بعد الإخبار بالمفرد، وبعضهم جعلها كذلك مطلقًا، والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية، وهي أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظاهر من المكان، وذلك كما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] إذ لم يردف بما يبينه، وجوز أن تكون كلامًا مبتدأ وهو استئناف نحوي. ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال، وقيل: إن الجملة هي خبر {هُوَ} والاسم الجليل بدل منه والظرف متعلق بيعلم. ويكفي في ذلك كون المعلوم فيما ذكر ولا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم تحيزه سبحانه وتعالى المحال. وهذا ما قيل كقولك: رميت الصيد في الحرم فإنه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه.
ونقل بعض المدققين عن الإمام التمرتاشي في الأيمان إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل كما إذا قلت: إذا ضربت في الدار أو في المسجد فإن كان معًا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض الفقهاء: لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فكذا فشرط حنثه كون الفاعل فيه.
وإن قال: إن ضربته في المسجد أو جرحته أو قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه. وفرق بين الرميين المتعدي بإلى والمتعدي بنفسه بأن الأول: إرسال السهم من القوم بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل. والثاني: إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل. وعلى هذا يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم هنا مجازًا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي كون المفعول فيه دون الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر المخاطبين وجهرهم في السموات مما لا وجه له.
والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السموات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض تعسف وخروج عن الظاهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط، ومثله القول بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في السموات. وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السموات أيضًا، وقيل: المراد بالسر ما كتم عنهم من عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر ما ظهر لهم من السموات والأرض. وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقًا بالمصدر على سبيل التنازع، واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. ويلزم أيضًا التنازع مع تقدم المعمول. وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول: بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره، ونقل عن ابن هشام أنه قال: إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه، وقال مولانا صدر الدين: يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى: {وَهُوَ الذى فِى السماء إله} [الزخرف: 84] مع أن إلهًا مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر. وعن أبي علي الفارسي أنه جعل {هُوَ} ضمير الشأن و{الله} مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرًا وعلانية. وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة {يَعْلَمْ}. ومن الناس من غاير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم. وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر. وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8